فصل: بَابُ الْخِيَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْخِيَارِ:

(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَيْهَا إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي مِنْك لَا يَقَعُ شَيْءٌ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَزَيْدٍ وَعَائِشَةَ قَالُوا فِي الرَّجُلِ يُخْبِرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ فَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلِأَنَّ الزَّوْجَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهُمْ أَوْ يُفَارِقَهَا فَيَمْلِكَ أَنْ يُسَوِّيَهَا بِنَفْسِهِ فِي حَقِّهِ بِأَنْ يُخَيِّرَهَا وَقَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} ثُمَّ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ مِنْ الزَّوْجِ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْبِيدَ مُتَأَبِّدٌ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ الطَّارِئَ لَهَا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُعْتَبَرٌ بِالْخِيَارِ الطَّارِئِ شَرْعًا وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ هَذَا لَهَا الْخِيَارُ مَا بَقِيَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ تَطَاوَلَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ قَبْضِ بَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لَمَّا تَوَقَّتَ بِالْمَجْلِسِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَطُولَ أَوْ يَقْصُرَ فَإِذَا قَامَتْ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَتْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْلِسَ يَكُونُ مَجْلِسَ مُنَاظَرَةٍ ثُمَّ يَنْقَلِبُ مَجْلِسَ أَكْلٍ إذَا اشْتَغَلُوا بِهِ ثُمَّ مَجْلِسَ الْقِتَالِ إذَا اقْتَتَلُوا وَلِأَنَّ الذَّهَابَ عَنْ الْمَجْلِسِ إنَّمَا كَانَ مُبْطِلًا لِخِيَارِهَا لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ بِقِيَامِهَا وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ يُفَرِّقُ الرَّأْيَ وَبِهِ فَارَقَ الصَّرْفَ وَالسَّلَمَ فَإِنَّ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ قَبْلَ الذَّهَابِ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِدَلِيلِ الْإِعْرَاضِ ثَمَّ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً حِينَ خَيَّرَهَا فَاضْطَجَعَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا فِي قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ بِمَا خَيَّرَهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَضْطَجِعُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُرَوِّيَ النَّظَرَ فِي أَمْرٍ وَلَوْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً حِينَ خَيَّرَهَا فَاسْتَوَتْ قَاعِدَةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِقْبَالِ عَلَى مَا حَزَبَهَا مِنْ الْأَمْرِ.
وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ نَوْعُ جِلْسَةٍ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُتَرَبِّعَةً فَاحْتَبَتْ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ بِمَنْزِلَةِ الِاضْطِجَاعِ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلتَّهَاوُنِ بِمَا خَيَّرَهَا وَإِذَا خَيَّرَهَا وَقَالَ لَمْ أُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتَارِي كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اخْتَارِي نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً أَوْ دَارًا لِلسُّكْنَى وَفِي الْكَلَامِ الْمُحْتَمِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاقَ مَعَ يَمِينِهِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت لَا يَقَعُ شَيْءٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ وَلَا فِي كَلَامِهَا مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ وَإِزَالَةَ الْإِبْهَامِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ اخْتَرْت أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي كَلَامِ أَحَدِهِمَا تَنْصِيصٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ النِّيَّةِ ثُمَّ الْمُخَيَّرَةُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ يَقَعُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَكَأَنَّهُ جَعَلَ عَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ طَلَاقًا فَقَالَ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَالْوَاقِعُ بِهِ طَلَاقٌ لَا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا بَلْ نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَهَذَا لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا» وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ وَكَأَنَّهُ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى أَتَمِّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاخْتِيَارِ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَمَلَا عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَهُوَ التَّطْلِيقَةُ الرَّجْعِيَّةُ وَلَكِنَّا نَأْخُذُ فِي هَذَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا زَالَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَنْهَا وَصَارَتْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا وَذَلِكَ بِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الثَّلَاثِ؛
لِأَنَّ حُكْمَ مَالِكِيَّتِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا لَا يَخْتَلِفُ بِالثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْعَدَدِ مِنْهُ وَقَوْلُهُ اخْتَارِي أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعَدَدِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ فَنِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا تَصِحُّ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَوَى بِهِ نَوْعًا مِنْ الْبَيْنُونَةِ وَهُنَا الِاخْتِيَارُ لَا يَتَنَوَّعُ فَبَقِيَ هَذَا مُجَرَّدَ نِيَّةِ الْعَدَدِ.
(قَالَ) وَالتَّخْيِيرُ فِي السَّفِينَةِ كَالتَّخْيِيرِ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ فِي حَقِّ رَاكِبِهَا كَالْبَيْتِ لَا يَجْرِ بِهَا بَلْ هِيَ تَجْرِي بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ}.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَافِهَا مَتَى شَاءَ فَلَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَيَّرَهَا وَهِيَ رَاكِبَةٌ فَسَارَتْ الدَّابَّةُ بَعْدَ الْخِيَارِ شَيْئًا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَى رَاكِبِهَا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ إيقَافِهَا مَتَى شَاءَ فَكَانَ ذَلِكَ كَمَشِيئَتِهَا فِي حُكْمِ تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا مُتَّصِلًا بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اخْتِيَارُهَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِسُكُوتِهَا بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهَا عَلَى تِلْكَ الدَّابَّةِ أَوْ كَانَا فِي مَحْمِلٍ وَاحِدٍ وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْبَيْعِ إنْ اتَّصَلَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي بِإِيجَابِ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ سَكْتَةٍ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ خَيَّرَهَا وَهِيَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَتَمَّتْ صَلَاتَهَا لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ قَبْلَ إتْمَامِهَا فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الِاخْتِيَارِ مَا لَمْ تَفْرُغْ وَدَلِيلُ الْإِعْرَاضِ بِتَرْكِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالْوَتْرُ فِي هَذَا كَالْمَكْتُوبَةِ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ قَطْعِهَا قَبْلَ تَمَامٍ فَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ إذَا كَانَتْ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَأَتَمَّتْ ذَلِكَ الشَّفْعَ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَاَللَّهِ مَا أَجَزْت رَكْعَةً قَطُّ وَإِنْ تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَاشْتِغَالُهَا بِالشَّفْعِ الثَّانِي دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ افْتَتَحَتْ الصَّلَاةَ بَعْدَ مَا خَيَّرَهَا الزَّوْجُ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا كَانَتْ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ حِينَ خَيَّرَهَا فَأَتَمَّتْ أَرْبَعًا لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَ تُؤَدَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً.
وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَدَعَتْ بِطَعَامٍ فَطَعِمَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ مَجْلِسَهَا تَبَدَّلَ حِينَ دَعَتْ بِطَعَامٍ فَقَدْ صَارَ مَجْلِسُهَا مَجْلِسَ الْأَكْلِ وَهَذَا دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْعُوَ بِالطَّعَامِ فَذَلِكَ الْقَدْرُ لِقِلَّتِهِ لَا يُبَدِّلُ الْمَجْلِسَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ بَلْ ذَلِكَ مِنْهَا تَفْرِيغُ نَفْسِهَا لِمَا حَزَبَهَا وَكَذَلِكَ إنْ شَرِبَتْ مَاءً؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا شَرِبَتْ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ الْكَلَامِ فَفِي حَالَةِ الْمُشَاجَرَةِ قَدْ يَجِفُّ فَمُ الْمَرْءِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ مَا لَمْ يَشْرَبْ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ بَلْ ذَلِكَ مِنْهَا تَفْرِيغُ نَفْسِهَا وَلَوْ نَامَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ اخْتَضَبَتْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ لِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الِاخْتِيَارِ وَكَذَلِكَ إنْ جَامَعَهَا فَتَمْكِينُهَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى إعْرَاضِهَا وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَهَا مِنْ مَجْلِسِهَا إمَّا لِأَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فِي الْقِيَامِ أَوْ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ الِاخْتِيَارَ حَتَّى أَقَامَهَا فَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَكَذَلِكَ هَذَا كُلُّهُ فِي قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت لِتَوَقُّتِهِمَا بِالْمَجْلِسِ وَإِنْ لَبِسَتْ ثِيَابَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَلْبَسُ لِتَكُونَ مُسْتَتِرَةً مِنْهُ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْ شُهُودًا؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ إشْهَادَهُمْ عَلَى اخْتِيَارِ أَمْرِ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ اُدْعُوا إلَيَّ أَبِي وَأُمِّي؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ تَسْتَشِيرَهُمَا فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَالِاسْتِشَارَةُ فِي مِثْلِ هَذَا حَسَنٌ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَا تُحْدِثِي فِيهِ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك ثُمَّ تَلَا عَلَيْهَا آيَةَ التَّخْيِيرِ وَخَيَّرَهَا فَقَالَتْ أَفِي هَذَا أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ أَنَا أَخْتَارُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ» وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّحَتْ أَوْ قَرَأَتْ آيَةً أَوْ نَحْوَهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَقَدْ يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ لِلِاسْتِخَارَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَا صَارَ فِي يَدِهَا مِنْ الْخِيَارِ وَالْأَمْرِ وَالْمَشِيئَةِ.
(قَالَ) وَإِذَا خَيَّرَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا إلَيْهَا فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْتُك فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ وَرَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ) وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي ثُمَّ اخْتَارِي ثُمَّ اخْتَارِي يَنْوِي الطَّلَاقَ بِهَذَا كُلِّهِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا يَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا جَوَابٌ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ وَالتَّرْتِيبُ بِحَرْفِ ثُمَّ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْتِيبًا فِي الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ يَقَعْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَلِأَنَّهَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا حِينَ بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إيجَابًا بَلْ إخْبَارًا عَنْ حَالِهَا أَنَّهَا مَالِكَةٌ أَمْرَ نَفْسِهَا وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ كَلَامَهُ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إيجَابٌ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ أَمْرَ نَفْسِهَا.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ الزَّوْجُ نَوَيْت بِالْأُولَى الطَّلَاقَ وَبِالْأُخْرَيَيْنِ أَنْ أُفْهِمَهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَبَانَتْ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إيجَابٌ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَلَكِنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ قَدْ يُكَرَّرُ لِلتَّأَكُّدِ وَتَفْهِيمِ الْمُخَاطَبِ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت فَلَمَّا قَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ قَالَتْ عَنَيْت نَفْسِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ خَرَجَ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَإِنَّمَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ أَرَدْت نَفْسِي أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنْهَا لِبَقَائِهَا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ سَكَتَتْ حَتَّى الْآنَ ثُمَّ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي التَّعْلِيلِ قَدْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا حِينَ تَكَلَّمَتْ بِذَلِكَ فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا وَإِنْ قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَرَدْت نَفْسِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ وَإِنْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت فَهَذَا جَوَابٌ وَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ جَوَابَهَا بِنَاءً عَلَى خِطَابِ الزَّوْجِ فَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ يَصِيرُ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَإِذَا خَيَّرَهَا بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ قَالَ لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ هَذَا فِي غَضَبٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي فُصُولِ الْكِنَايَاتِ وَكَمَا لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ.
وَإِذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا بِمَا أَوْقَعَ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ تَخْتَارُ أَمْرَ نَفْسِهَا لِهَذَا الْمَقْصُودِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت سَقَطَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَانَ الْخِيَارُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الطَّلَاقِ لَا تَصِيرُ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي إذَا شِئْت أَوْ أَمْرُك بِيَدِك إذَا شِئْت ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَوْقَعَ بِنَفْسِهِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ إخْرَاجًا لِلْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ كَانَتْ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الِاخْتِيَارِ لِكَوْنِهَا مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُتَعَدِّدٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا أَوْقَعَهُ الزَّوْجُ لِمَا فَوَّضَهُ إلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ ثُمَّ بَاعَ بِنَفْسِهِ قَفِيزًا لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي الْأَزْوَاجَ أَوْ اخْتَارِي أَهْلَك أَوْ أَبَوَيْك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت الْأَزْوَاجَ أَوْ أَبِي أَوْ أَهْلِي وَقَدْ عَنِيَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ فِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهَا مَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي أَصْلِ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا وَرَدَ الْأَثَرُ فِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَمَا سِوَى ذَلِكَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَإِنَّهَا إنَّمَا تَخْتَارُ الْأَزْوَاجَ إذَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى بَيْتِ أَبِيهَا وَأَهْلِهَا إذَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي أُخْتك أَوْ أَخَاك أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْك فَاخْتَارَتْ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ أَخْتَارُ نَفْسِي فِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا وَعْدٌ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَخْتَارُ وَعْدٌ صُورَةً وَإِيجَابُ مَعْنًى وَالْعَادَةُ الظَّاهِرُ فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ يَقُولُ الرَّجُلُ فُلَانٌ يَخْتَارُ كَذَا وَأَنَا أَخْتَارُ كَذَا وَالشَّاهِدُ يَقُولُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَشْهَدُ وَالْمُؤَذِّنُ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْوَعْدِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذِهِ الْعَادَةِ فِي قَوْلِهَا أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي فَلِهَذَا يُؤْخَذُ هُنَاكَ بِالْقِيَاسِ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا قَدْ فَعَلْت فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ أَزْيَدُ مِنْ قَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت طَلُقَتْ كَمَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَشِيئَةً وَزِيَادَةً وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهَا بِإِزَاءِ الْبَيْنُونَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَالْبَيْنُونَةُ قَدْ حَصَلَتْ هُنَا وَقَدْ أَوْجَبَ الزَّوْجُ ذَلِكَ لَهَا بِعِوَضٍ وَفِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا قَبُولٌ مِنْهَا.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَإِنْ كُنْت زَوْجِي أَوْ إنْ كَانَ كَذَا لِشَيْءٍ مَاضٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَوْجُودِ تَنْجِيزٌ فَهَذَا وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي سَوَاءٌ فَإِنْ اشْتَرَطَتْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّعْلِيقِ وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ فَاشْتِغَالُهَا بِالتَّعْلِيقِ يَكُونُ إعْرَاضًا عَمَّا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَبْطُلُ خِيَارُهَا.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ هَذَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاخْتِيَارِ أَضْعَفُ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ دُونَ لَفْظِ الِاخْتِيَارِ فَالْأَضْعَفُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَقْوَى وَالْأَقْوَى يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَوْلَهَا طَلَّقْت نَفْسِي لَوْ كَانَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَكُونُ عَامِلًا وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي قَبْلَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَكُونُ لَغْوًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَفْوِيضِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ غَيْرُ التَّخْيِيرِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ بِقَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ تَمْلِكَ اكْتِسَابَ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَقَوْلَهَا طَلَّقْت نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَيَصِحُّ مِنْهَا فَأَمَّا قَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ تَفْوِيضٌ لِلطَّلَاقِ إلَيْهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُثْبِتَ الْخِيَارَ لَهَا فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ بَاطِلًا مِنْهَا.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِرَجُلٍ خَيِّرْ امْرَأَتِي أَوْ قُلْ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فَمَا لَمْ يُخَيِّرْهَا ذَلِكَ الرَّجُلِ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّهُ أَنَابَ ذَلِكَ الرَّجُلَ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي تَخْيِيرِهَا وَمَا أَوْجَبَ لَهَا الْخِيَارَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ قُلْ لَهَا أَنَّ الْخِيَارَ بِيَدِهَا أَوْ أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ أَنَّهَا طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ فَذَلِكَ بِيَدِهَا أَخْبَرَهَا الرَّجُلُ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَجَعَلَ الْمُخَاطَبَ رَسُولًا إلَيْهَا فِي إعْلَامِهَا ذَلِكَ فَسَوَاءٌ أَعْلَمَهَا أَوْ عَلِمَتْ بِنَفْسِهَا بِسَمَاعِهَا مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ إلَّا بَعْدَ أَيَّامٍ فَمَتَى عَلِمَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمُقْتَضَى هَذَا التَّخْيِيرِ مَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي حَقِّهَا عَلَى عِلْمِهَا بِهِ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ وَكَمَا فِي خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ أَنَّهُ يَبْقَى إلَى عِلْمِهَا بِهِ وَمَتَى عَلِمَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ هِيَ بِالْخِيَارِ الْيَوْمَ فَلَهَا الْخِيَارُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا خِيَارًا مُمْتَدًّا فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ وَقْتَهُ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ فَلَا مُوجِبَ لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنْ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ سَوَاءٌ عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هِيَ بِالْخِيَارِ هَذَا الشَّهْرَ وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا ذَلِكَ وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهَا ذَلِكَ عَلَى عَكْسِ هَذَا وَقَالَ إذَا قَالَ لَهَا الْخِيَارُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا فِي يَوْمٍ ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمَنْ يَقُولُ لَهَا ذَلِكَ قَالَ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا زَوْجَهَا بِمَنْزِلَةِ قِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ فَكَمَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي الْأَمْرِ الْمُؤَقَّتِ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجِهَا وَمَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ وَقَدْ أَبْطَلَتْهُ حِينَ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَ إبْطَالِهَا خِيَارٌ حَتَّى تَخْتَارَ بِهِ نَفْسَهَا.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَوْمَ أَتَزَوَّجك فَاخْتَارِي أَوْ مَتَى أَتَزَوَّجْك فَاخْتَارِي أَوْ إنْ تَزَوَّجْتُك أَوْ إذَا تَزَوَّجْتُك أَوْ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَلَهَا الْخِيَارُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَتَزَوَّجُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ إلَّا فِي كُلَّمَا فَإِنَّ لَهَا الْخِيَارَ كُلَّمَا تَزَوَّجَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ.
قَالَ وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي إذَا أَهَلَّ الشَّهْرُ أَوْ إذَا كَمُلَتْ السَّنَةُ أَوْ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَهَا الْخِيَارُ إذَا عَلِمَتْ فَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ وَلَوْ خَيَّرَهَا مُطْلَقًا عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي عَلِمَتْ بِهِ كَذَلِكَ هُنَا.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي يَوْمَ كَذَا أَوْ رَأْسَ الشَّهْرِ أَوْ صَلَاةَ الْأُولَى فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلِّهِ وَوَقْتِ تِلْكَ الصَّلَاةِ كُلِّهِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ لَيْلَتِهِ وَيَوْمِهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ وَرَأْسُهُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى وَيَوْمُهَا وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا بِمُضِيِّ هَذَا الْوَقْتِ إنْ عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا الْخِيَارَ مُؤَقَّتًا فَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَوْ قَدِمَ بِالنَّهَارِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَوَقَّتُ فَذَكَرَ الْيَوْمَ فِيهِ لِلتَّوَقُّتِ بِهِ فَيَتَنَاوَلُ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ فَذِكْرُ الْيَوْمِ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْتهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَطْلِيقَةً بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَالْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ يَكُونُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ فَيَصِيرُ مُفَوِّضًا إلَيْهَا الطَّلَاقَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ لَوْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ كَانَ هَذَا تَفْسِيرَ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي تَطْلِيقَتَيْنِ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت وَاحِدَةً وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ إيقَاعَ اثْنَتَيْنِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ تَمْلِكَ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي تَطْلِيقَتَيْنِ إنْ شِئْتهمَا فَاخْتَارَتْ وَاحِدَةً لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ مَشِيئَتَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَهَذَا جَوَابٌ مِنْهَا تَامٌّ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ بِمَرَّةٍ أَوْ اخْتِيَارَةٍ فَهَذَا جَوَابٌ تَامٌّ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ أَوْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا اخْتَرْت الْأُولَى مَا صَارَ إلَيْهَا بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهَا بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى تَطْلِيقَةٌ فَكَأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّطْلِيقَةَ فَلَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَرَّةَ أَوْ الِاخْتِيَارَ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ لَا يَنْزِلُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ وَلَكِنَّ النَّعْتَ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْعُوتٍ مَذْكُورٍ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَ إمْكَانِ صَرْفِهِ إلَى الْمَذْكُورِ وَالْمَذْكُورُ الِاخْتِيَارُ دُونَ الطَّلَاقِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا اخْتَرْت الِاخْتِيَارَةَ الْأُولَى أَوْ الْمَرَّةَ الْأُولَى وَلَوْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَحَرْفٌ آخَرُ لَهُ أَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّرْتِيبِ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ التَّرْتِيبِ فَيَلْغُو ذِكْرُ التَّرْتِيبِ فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكُلِّ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَ قَدْ اجْتَمَعَتْ فِي مِلْكِهَا حَتَّى يَقَعَ الثَّلَاثُ جُمْلَةً بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَالْمُجْتَمِعُ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ التَّرْتِيبِ فَكَذَلِكَ الْمُجْتَمِعُ فِي الْمِلْكِ لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ التَّرْتِيبِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهَا اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى فَإِنَّ هُنَاكَ يَلْغُو ذِكْرُ التَّرْتِيبِ أَيْضًا فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ (فَإِنْ قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ هُنَاكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لُغِيَ ذِكْرُ التَّرْتِيبِ بَقِيَ قَوْلُهَا اخْتَرْت وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَقُلْ اخْتَرْت نَفْسِي.
(قُلْنَا) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الزَّوْجِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الطَّلَاقِ وَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ اخْتَارِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُوَ الْمَحْصُورُ بِعَدَدِ الثَّلَاثِ وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك أَوْ طَلَاقَك فَقَالَتْ اخْتَرْت كَانَ جَوَابًا فَكَذَلِكَ هُنَا.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَاخْتَارِي فَقَالَتْ بَعْدَ قُدُومِهِ بِأَيَّامٍ لَمْ أَعْلَمْ إلَّا السَّاعَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إنْ نَازَعَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ يُتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْقُدُومِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا مَا يُسْقِطُ خِيَارَهَا بَعْدَ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ لَهَا وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَلَكِنْ لَوْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَتَّى خَاصَمَتْ فِيهِ الزَّوْجَ وَذَهَبَتْ إلَى الْقَاضِي فَلَا خِيَارَ لَهَا لِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ مَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَامَهَا الزَّوْجُ.
(قَالَ) وَإِذَا خَيَّرَهَا فِي مَجْلِسِهَا فَقَالَتْ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْهُ قَدْ كُنْت اخْتَرْت نَفْسِي فِيهِ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا تُخْبِرُ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَإِذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِتَصْدِيقِ الْخَصْمِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي الْيَوْمَ وَاخْتَارِي غَدًا فَرَدَّتْ الْخِيَارَ الْيَوْمَ أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَيْسَ لَهَا الْخِيَارُ فِي بَقِيَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَهَا الْخِيَارُ غَدًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاخْتَارِي غَدًا تَخْيِيرٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتٍ آتٍ وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُنْجَزِ فَإِنَّهَا إنَّمَا رَدَّتْ الْخِيَارَ الْمُنْجَزَ فِي الْيَوْمِ فَيَبْقَى خِيَارُهَا فِي الْغَدِ عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي الْيَوْمَ وَغَدًا فَرَدَّتْ الْيَوْمَ أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْغَدَ عَلَى الْيَوْمِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ امْتِدَادَ الْخِيَارِ إلَى مُضِيِّ الْغَدِ لَا تَجْدِيدَ الْخِيَارِ الْمُضَافِ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ وَاحِدًا وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِرَدِّهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا قَالَ وَاخْتَارِي غَدًا فَهُوَ خِيَارٌ آخَرُ أَوْجَبَهُ لَهَا فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلْغَدِ خَبَرًا فَلَا يُجْعَلُ الْخَبَرُ الْأَوَّلَ خَبَرًا لَهُ وَإِنْ اخْتَارَتْ الْيَوْمَ نَفْسَهَا فَبَانَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكْت أَمْرَ نَفْسِهَا بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَذَلِكَ يَنْفِي الْخِيَارَ الْمُضَافَ كَمَا يَنْفِي الْخِيَارَ الْمُنْجَزَ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ الْمُضَافَ إلَى الْغَدِ لَا يَتَضَمَّنُ تَطْلِيقَةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الَّتِي فِي ضِمْنِ الْخِيَارِ الْمُنْجَزِ تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْغَدِ مَا لَمْ تَقَعْ فَإِذَا وَقَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسِهَا فِي الْيَوْمِ لَمْ يَبْقَ حَتَّى تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْغَدِ بِهَا.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي غَدًا الطَّلَاقَ فَقَالَتْ الْيَوْمَ اخْتَرْت غَدًا الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت الزَّوْجَ فَاخْتِيَارُهَا الْيَوْمَ بَاطِلٌ وَلَهَا الِاخْتِيَارُ غَدًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَضَافَ التَّخْيِيرَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاخْتِيَارُهَا قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ لَغْوٌ وَإِنْ قَالَتْ فِي الْغَدِ قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي لَا بَلْ نَفْسِي كَانَتْ امْرَأَتَهُ وَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي بَطَلَ خِيَارُهَا فَبِقَوْلِهَا لَا بَلْ نَفْسِي اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ مَا بَطَلَ خِيَارُهَا وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي لَا بَلْ زَوْجِي بَانَتْ بِقَوْلِهَا اخْتَرْت نَفْسِي فَلَا تَرْفَعُ الْبَيْنُونَةَ بِقَوْلِهَا لَا بَلْ زَوْجِي بَعْدَ ذَلِكَ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَشِئْت الطَّلَاقَ كَانَتْ طَالِقًا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي جَوَابُ التَّخْيِيرِ وَقَوْلُهَا شِئْت الطَّلَاقَ إيجَادٌ لِلشَّرْطِ فِي طَلَاقِ الْمَشِيئَةِ وَالصَّرِيحُ يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَلَا يَكُونُ قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي عَمَلًا هُوَ ضِدَّ مَشِيئَةِ الطَّلَاقِ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَشِيئَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ طَلَاقُ الْمَشِيئَةِ مِنْ يَدِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اخْتَارِي إنْ هَوَيْت أَوْ أَحْبَبْت أَوْ أَرَدْت فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَقَعَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَقَدْ هَوِيت ذَلِكَ وَأَحَبَّتْ وَأَرَادَتْ حِينَ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا (قَالَ) وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي مِنْ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مَا شِئْت فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ الثَّلَاثَ بِهَذَا اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ (مَا) لِلتَّعْمِيمِ وَ(مِنْ) قَدْ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا يُقَالُ سَيْفٌ مِنْ حَدِيدٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ} وَقَدْ تَكُونُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وقَوْله تَعَالَى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} فَكَانَتْ مُرَاعَاةُ جَانِبِ التَّعْمِيمِ بِكَلِمَةِ مَا أَوْلَى وَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى التَّعْمِيمِ صَارَتْ الثَّلَاثَةُ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا فَكَانَتْ كَلِمَةُ مِنْ لِتَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ فِي التَّفْوِيضِ إلَيْهَا أَوْ هُوَ صِلَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كَلِمَةُ مَا لِلتَّعْمِيمِ كَمَا قَالَا وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُتْرَكُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ فَيُعْمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلِمَتَيْنِ وَيَقُولُ يُزَادُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِحَرْفِ التَّعْمِيمِ وَيُنْقَصُ عَنْ الثَّلَاثِ لِحَرْفِ التَّبْعِيضِ فَيَصِيرُ بِيَدِهَا ثِنْتَانِ فَإِذَا أَوْقَعْت وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ أَوْقَعَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِاثْنَتَيْنِ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ صَارَتْ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا وَفِي الْكِتَابِ اسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِمَا بِمَا لَوْ قَالَ كُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ مَا شِئْت جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هُنَاكَ قَامَ دَلِيلُ الْمَجَازِ وَهُوَ الْعُرْفُ وَلِأَنَّهُ إبَاحَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَيَنْبَنِي الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّوَسُّعِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ كُلِّ لَفْظٍ وَلَوْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى قَالَ الزَّوْجُ لَك أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَخْتَارِينِي فَاخْتَارَتْهُ كَانَتْ قَدْ أَبْطَلَتْ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الزَّوْجَ بِإِسْقَاطِهَا خِيَارَهَا شَيْئًا.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ زَوْجِي بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ (أَوْ) يَقْتَضِي إثْبَاتَ أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتِغَالُهَا بِالْكَلَامِ الْمُبْهَمِ يَكُونُ إبْطَالًا مِنْهَا لِلْخِيَارِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْعَلْ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا عَزِيمَةً فِي كَلَامِهَا وَإِنْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَزَوْجِي طَلَقَتْ بِقَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَقَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَزَوْجِي لَغْوٌ وَإِنْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي وَنَفْسِي فَقَدْ سَقَطَ اخْتِيَارُهَا بِقَوْلِهَا اخْتَرْت زَوْجِي فَقَوْلُهَا وَنَفْسِي بَعْدَ ذَلِكَ لَغْوٌ وَهِيَ امْرَأَتُهُ وَلَا خِيَارَ لَهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.